ربما لا تتذكرون العنوان الموحد لسلسلة المقالات الافتتاحية المتوالية، التي نشرتها صحف النظام السابق (الثورة والجمهورية والقادسية) عام 1991، بعنوان (ماذا حصل في أواخر عام 1990 وهذه الأشهر من عام 1991 ؟. ولماذا حصل الذي حصل؟)، واشتركت فيها بشتم أبناء الجنوب والنيل منهم والعبث بتاريخهم والتقليل من شأنهم. لم تكن سلسة الافتتاحيات سياسية ولا تنظيمية ولا اجتماعية. بل كانت عبارة عن حملة مسعورة ضد شعب منكوب يقبع في الجنوب. سلسلة من المقالات الغاضبة لا يجرؤ غير النظام الحاكم على نشرها وإعلانها على الملأ. لقد وصفونا في تلك الافتتاحيات بأننا من الأقوام البدائية الغارقة قي الجهل والتخلف، وأننا من الرعاع والهمج والمغفلين والأغبياء، وأننا ننحدر من القبائل الهندية والأفريقية والفارسية والمجوسية. كانت تلك الافتتاحيات تعيب علينا فقرنا واعتلال صحتنا وسوء أحوالنا المعيشية، وتمادت في بعض شطحاتها إلى مستويات الضحالة عندما تشعبت في إلصاق التهم المهينة بقبائلنا، وشككت بعروبتنا وأخلاقنا وديانتنا ووطنيتنا. واتهمتنا بممارسة الرذيلة على وجه الاعتياد. ثم سقطت تلك الصحف في مستنقعات الوقاحة والابتذال والطعن بأعراض الناس، بقولها: (أن معظم أبناء الجنوب يعتاشون على كد الفروج). نعم. هكذا افترت علينا الصحف العراقية، التي كانت تتظاهر بالعدالة والديمقراطية، وتتظاهر بتمسكها بمبادئ الوحدة والحرية في بلد وصل فيه التهتك السياسي إلى الحضيض، ووصل السقوط الأخلاقي بالقيادة السياسية إلى انتهاك كرامة أبناء العراق والتنكيل بسكانه الأصليين؟. لقد أثارت تلك المقالات موجة عارمة من السخط لدى العراقيين كافة، بسنتهم وشيعتهم، وعربهم وأكرادهم، واستفزت المسيحيين والمسلمين والصابئة وأبناء الطوائف الأخرى على حد سواء. كيف يسمح رئيس دولة لنفسه أن يهاجم الكتلة الأكبر من شعبه ؟، وكيف يشتمهم بهذه الطرق الهمجية ؟، وكيف يسمح رئيس ذلك النظام بهذه الأساليب المبتذلة في الهجوم على الشعب الصابر، الذي وقف معه بحزم في معاركه المتكررة. وكعادة الصحف الرخيصة في البلدان المستهترة. كانت تلك المقالات تُذيل بهذه العبارة الاستفزازية الكاذبة: (أننا نعيش في بلدٍ ديمقراطي، وبإمكان أي شخص يجد خلاف هذه الحقائق الرد على المقال، فحرية التعبير مكفولة في دولة البعث). كانت صدمة كبيرة للشعب العراقي وهو يرى هبوط حكومته إلى منزلقات الانحطاط الأخلاقي. تناقل الناس تلك المقالات، وكان من بينهم الصحفي المصلاوي الشجاع (ضرغام هاشم هاني)، الذي رد بقوة بلسان أبناء الموصل الأصلاء على تلك المقالات الخسيسة، مستهلاً كلمته الجريئة بهذه العبارة: (أننا نعيش في بلد ديمقراطي، كما يدعي كاتب المقال، لذا، ومن هذا المنطلق، ومن باب النقاش الموضوعي وتصحيح المفاهيم الخاطئة، بودي أن أسألك يا كاتب المقال النظر في أصلك أنت، حتماً ستجد هؤلاء الذين تنعتهم بأبشع النعوت أشرف وأعف منك، فأهل الجنوب الذين قضوا على سواتر الوطن أعرق منك ومني في انتمائهم إلى هذه الأرض). وذيّل ضرغام مقالته باسمه الكامل، وكانت بعنوان (السيد الرئيس.. أترضى أن يهان شعبك ؟).
|