يتفق المؤرخون على ان العصر العباسي شهد اوسع حركة ثقافية، مقارنة بالعصور التي سبقته والتي اعقبته، لذلك صدرت الاف الكتب والترجمات والبحوث في شتى فنون المعرفة الانسانية والعلمية، كما شهد هذا العصر انتعاش نوع من التاليف التي يراد بها التسلية والامتاع او التقرب الى الخلفاء والحصول على هداياهم وهباتهم، وهذا النوع من التاليف اختلطت فيه الوقائع والاحداث المتفق عليها بالخيال الواسع بالحكايات المفبركة، ومن هنا ظلت هذه الكتب تحمل الشيء الكثير من الذائقة الجمالية، ولكنها لا تصلح كمدونات او وثائق تاريخية لاغراض الاستشهاد!. لعل موضوعة الكرم او الكرم العربي، واحدة من الموضوعات التي عالجتها تلك التاليف عبر الجمع بين واقع الكرم العربي، والخيال والحكاية، واعتقد جازما ان الكثير من الصور التي قدمها مؤلفوا ذلك العصر عن الكرم، كان في اساسه مقتبسا عن كرم العراقيين على وجه الخصوص، وربما بوجه اخص عن كرم اثرياء العراقيين الذين كانوا يبعثرون اموالهم من دون وجع قلب، الا ان الكتاب ارادوا تعميم صفة الكرم باعتبارها صفة محمودة من اطارها العراقي الى اطارها العربي، بعد ان اتسم العصر العباسي بذلك الصراع الفكري العنيف بين خصوم العرب من الشعوبيين الذين شنوا هجمة قاسية على سكان البلاد الاصليين (العرب) وانكروا اي فضل لهم على الحياة الثقافية والفكرية والسياسية، وبين المتعصبين للعرب ومنجزهم الثقافي!. هكذا يغلب الرأي عندي، ان اغلب ما قيل عن الكرم العربي، انما يقصد به كرم العراقيين، من دون ان يعني هذا انتقاصا من عرب البلدان الاخرى خارج محيط الخارطة العراقية، الذين لم يعرف عنهم التطرف في الكرم الى حد الاسراف اللامعقول، ودليلي على ذلك، ان هذه السمة مازالت ملازمة لنا وكأنها جزء لا يتجزأ من شخصيتنا، او بالاحرى انها جزء من كروموسومات الدم والجينات الوراثية، فنحن ـ اعني العراقيين ـ الى يومنا هذا وساعتنا هذه اذا زارنا اربعة ضيوف نهيء اطعمة تكفي لاربعين ضيفا، كما لو ان الضيافة حسنة، والحسنة بعشرة، امثالها ونحن لا ندع ضيفنا يأكل مما يرغب ويحب وتشتهي نفسه، بل نجبره على ان يتذوق الانواع كلها، فأن اعتذر لان هذا النوع يضر بصحته مثلا، او لا يرغب فيه ابدا، حلفنا بالطلاق ثلاثا على ان ياكل ويجرب، ويتذوق المائدة كلها، ولا ندع ضيفنا كذلك يغادر المائدة اذا شبع واكتفى، بل نلح عليه ونقسم وان ادى ذلك الى نقله الى المستشفى... هؤلاء نحن وهذه سجيتنا، كرماء متطرفون في كل شيء، حتى في السياسة، يخطأ المسؤول فنكرمه بتعيينه سفيرا، فأن تمادى في اخطائه الى حد الايذاء تمادينا في كرمنا وعيناه وزيرا او نائبا لرئيس الجمهورية، وقد نفرط في كرمنا مستقبلا فنكرم المخطئ المذنب بمنصب احدى الرئاسات!!.
|