لا يقوم كرسي السلطة العربية قبل قيام الجدران العالية والمحصّنة والعازلة عن الرعية... ويحدث داخلها الانقطاع المعرفي.. وعلى نحو طبيعي وغير محسوس .. ولا يعود السلطان يرى الدنيا إلا من خلال نفسه... ويعزز عزلته أن اغلب المحيطين به لا يسمعونه ولا يرينه غير ما يريد أن يسمعه ويراه.. فهم يقرأونه ويرددون ما يقرأونه... وينتظرون العطايا.. والعطايا لم تعد كيسا من الدراهم ... بل أكياس من النجوم والمناصب والثروات... هاك رتبة نقيب... خذ أيها الأمي خمس نجوم.. كن عقيدا, أو عميدا... أنت متضرر عوض اضرارك بعنوان ... وذاك جاع فليتخم وليترف... وهذا سبق وان فعله الأعداء, فهل حلال عليهم وحرام علينا؟؟
من الطبيعي انه بقدر عطايا الأكياس يكون حجم المتملقين وحملة المباخر وناقري الدفوف ولكن بصيغ أخرى تستلهم هوى المعطائين.. والأكيد أن المداحين والمتملقين وخبراء الربت على الأكتاف هم ذاتهم دائما.. يدومون هم أو بنسلهم ومقلديهم... وغوغاء الأمس غوغاء اليوم...(وفحول) التملق أمس فحول التملق اليوم... ومن تصوفوا وفنوا بقادة الأمس تصوفوا وفنوا بقادة اليوم... وبعضهم ينحر حيوات كل منافسيه وعارفيه عندما يخشى كشفهم له...
والتملق بضاعة, وتحكمه قوانين السوق.. العرض يتبع الطلب.. وكلما زاد الطلب زاد العرض... وعادة ما يرتفع الطلب وتزدهر سوق المنافقين مع زيادة وقوع القوة بأيدي باطلة وجاهلة وغير جديرة وتبحث عمن يبررها ويؤكدها ويشهد بشرعيتها.. وتقترن مثل هذه المراحل بالفوضى والفساد... والاستياء العام... ونحسب أن العراق يعاني من الانتهازيين.. ومن ازدهار وقتهم ... فهؤلاء هم السياج الأكثر ارتفاعا وحصانة ويكفل لانقطاع السلاطين عن رعاياهم ميزة صياغة وصنع آراءهم وأفكارهم ولا يمر عبرهم إلى السلاطين غير ما يناسبهم ويعزز منافعهم ومواقعهم وفنون تملقهم.. وهم عندنا قد يكونون بسطوة مخيفة.. وربما تخضع لإشاراتها السكاكين والكواتم والمفخخات وضروب الممارسات الأخرى... وإنهم الذين جسدوا خيال الأدباء واستنسخوا ما قاله جبران خليل جبران عندما جعل من مجمع القباحات والتشويهات, جعلها خلاصة للجمال والفتنة. وقالوا أن في العراق مخدرات.. وفي كل العالم المتقدم مخدرات .. وكذا عندها شاذون..وفاسدون؟ لا يوجد بلد يخلو من الرشا والفساد.. والوثائق الدراسية المزورة؟؟ لقد وجدوها في ولاية أمريكية...والقضاء؟ هذا ظن , وبعض الظن أثم... والأبرياء, لا بيقين الأهل بل بالقرار الرسمي... ونيلهم حكم البراءة بعد وقت الشقاء ما ذنبهم, ومن يتحمل وزرهم ووزر امهاتهم؟
كأن للتملق هوية شرقية.. وبشيء من التجاوز هو اختصاص عربي.. وربما عراقي... يضاعف من القطيعة المعرفية للمسؤول ويبعده عن نبض شعبه .. ويمنع الأنين من الاقتراب من جدران قصره... والنموذج الذي رأيناه وأثار الفزع عبر به تملقه الجديد من حواشي الأستاذ إلى موقع الأستاذ.. ومثل هذا النموذج هو الذي أضاع بوصلة المسؤول في وسط نزاع العراقي مع نفسه.. ولم يعد يطيق من يذكره بقائل الحق المر.. فهذا ليس وقتها.. |