عبد الحاج
سليم اللوزي لم يهتم كثيرا بكتابة رواية تبشيرية أو إصلاحية بعد رواية غير تقليدية نسبيّا، “ذبائح ملونة”، وفي شقته الكائنة بالحي الشرقي من مدينة بيروت ورفقة زوجته، يبدأ الكاتب والصحفي اللبناني سليم اللوزي في كتابة روايته “خلف العتمة” على فضاء ورقي لا نهاية له، ماحيا الهوامش، لاغيا التبويب، وقافزا فوق الفصول والفقرات، كأنما في سباق لاهث مع المخيلة. رواية “خلف العتمة”، الصادرة عن “شركة المطبوعات”، مرويّة بضمير المتكلم، ومسرح أحداثها هذه المدينة المستباحة أمام الخوف والحرب والحب والدين، منذ البداية أفهمنا سليم أن أيّة “شخصية” يكتب عنها، حتى الشخصيات الهامشية، كانت “تزور” روايته من خلال “رواية” ذاتية تخصّ تلك الشخصية، وأن تلك الرواية غير المكتوبة تضمّ، إلى جانب مشروعها الرئيسي، آلامَ وأقدارَ تلك الشخصية: هذه الأرملة، أو ذاك الطفل، أو تلك العجوز المسنّة، أو حتى المرأة الشابة التي لم تظهر في الرواية إلا في مشهد عبورها السوق العام فقط.
استدعاء تشوسر هذه الشخصيات قدمت عبر فلاشات مختصرة، سريعة، تذكّر بأسلوب الكاتب البريطاني تشوسر في كتابه الشهير “حكايات كانتربري”. المشاهِدُ غيرُ المكتملة تتقاطع وتشتبك لتخلقَ لوحةً أرحب وأشدّ تعقيدا. التنوّع الأسلوبيّ للقصّ داخل الرواية الواحدة يذكّر القارئَ دائما أن ثمةَ خطّا شعريّا أو خياليا متورط في العمل. فالاعتماد على الخيالَ كحيلة ذهنية لانتزاع الأمن من الحياة وخلق شيء من الثقة بالنفس، والتي أظهرت لقارئها مدى أهمية استغلال وتنمية قدرات المخيال التشكيلي في حياتنا اليومية، كما هو لدى المبدع في بناء النص. لكنها عمدت إلى إظهار كيف تنصهر الحياة في ألوانها الخاصة بكل ما فيها من تقاطعات؛ اليوميّ البسيط، والعميق الفلسفيّ، لتكَون مشروع رواية لم تكتمل وفي ذات الوقت تبقى عملا مكتمل البنية على نقصانه المتعمد، لخيط رهيف من الفوضوية والتحرّر والشعرية أيضا، يهتم بالأساس بالبشر المهمشين أو الذين يعانون من مشاكل نفسية ما، حيث لم يهتمّ سليم كثيرا بكتابة رواية تبشيرية أو إصلاحية.المشاهد غير المكتملة تتقاطع وتشتبك لتخلق لوحة أرحب وأشد تعقيدا في فضاء السردالملمح الأساسيّ لعبقريةِ سليم، والظاهر منذ بداية مشروعه الأدبي، هو إصراره على تأكيدِ مراوغة العالَم بوصفه أوسع وأكثر تعقيدا من أن نضع اشتباكاته تحت بؤرة النقد من خلال أيّة حياة فردية. «جرّب أن تدخل “وعي” إنسان، أيّ إنسان، وسوف تجد نفسك فورا منقادا إلى حيوات العشرات من البشر الآخرين الذين يكملون، ويتقاطعون مع حياة هذا الإنسان، كلّ على نحو مختلف». لكن الرواية -وهنا مكمن تشويقها وفرادتها- ثمرةُ حساسيةٍ حداثيةٍ تخترقُ طرائقَ السرد التقليديّ والوصف الخارجي (على طريقة آرنولد بنيت وجولز ورذي وهـ.ج. ولز)، وتحطّم قواعد المنظور -أستعير العبارة من يوسف الشاروني-، لكي تنفذ من قشرة المظاهر الخارجية إلى اللبِّ الروحيّ العميق، إلى مركز الأرض الباطني الموّار بالحرارة والجيشان والانفعال. هذه بمعنى من المعاني، ميتا رقصة، بمعنى أنها انكفاءٌ على الذات الداخلية، وتأملٌ من جانب الراوي لطريقة كتابة رواية.
الرواية رحلة مفتوحة على المجهول ليصطنع منهجَ المونولوج الداخليّ وتتوسل بتدفق تيار الشعور والصورة الشعرية المحلّقة والأسلوب الانطباعي إلى الغوص في أعماق الشخصية، وما تموج به من صفاء وكدر، وما يعتريها من تقلّبات متصلة. فأسلوبه في التصاعد الواعي والذهنيّ لشخوص روايته في تزامن مع التصاعد السرديّ للحدث. حيث الكتل الزمنية تتراص متوازية في الذاكرة وبالتالي في الرؤية الدرامية. يرافقه التطوّر المشهديّ المتصاعد عن طريق التراصّ الرؤيويّ.
بلا ضوابط بعيدا عن الاشتباك المباشر مع الواقع والتراكم الزمنيّ، استُبدلَ بهما التراوحُ الملتَبس للعقل بين الذاكرة وبين الوعي. ومن ناحية أخرى يربط المشهد المركّب للتيمة الرمزية بين شخوص ليس من علاقة واضحة بينهم في القصة ذاتها. كل تلك التقنيات ألقت على عاتق القارئ متطلبات جديدة في فنّ التلقي من مقدرة على تخليق الصورةِ الكليّةِ وإعادةِ بنائها من جزئياتٍ متناثرةِ ليست بادية الصلة. من هنا كانت صعوبة قراءة فرجينيا وولف. “خلف العتمة”هذه الرحلة المفتوحة على المجهول، المتواصلة على الطريق، تساهم في صناعة وعي شخصية البطل، وتشحذ فكرة العيش بلا ضوابط أو تابوهات، كما أنّها تحاول أن تكرس مفهوما جديدا للصعلكة في الأدب. وسليم اللوزي، هو صحفي وناشط سياسي، ولد في مدينة طرابلس شمال لبنان، سنة 1986، متحصل على إجازة جامعية في إدارة الأعمال من الجامعة اللبنانية، وبدأ عمله الصحافي عام 2004. وقد صدر له عن شركة المطبوعات “ذبائح ملوّنة” (رواية) عام 2011، و”خلف العتمة” (رواية) عام 2014.
|