نزار حيدر السّنةُ الثّانية هذا السّيلُ المليونيُّ الجارف في مسيرة الاربعين، هو أحدُ اعظمِ مصاديق قول عقيلة بني هاشم زينب الكبرى بنت علي عليهما السلام الذي تحدّت به الطاغية ابن الطلقاء يزيد بن معاوية لعنهُ الله في مجلسه بالشام {فكِدْ كيْدكْ واسعَ سعيَك وناصِبْ جَهدَك فوالله لا تمحو ذِكرَنا ولا تميتُ وحيَنا ولا تُدركُ أمدَنا ولا ترْحضُ عنك عارَها وهلْ رأيُك إلا فَندْ وأيامُك إلا عَددْ وجمعُك إلا بَدَدْ}. كما انّهُ مصداقٌ لقولها عليها السلام، وهي العالمة غير المعلّمة لابن اخيها الامام علي بن الحسين السجاد زين العابدين عليهم السلام {ولينصبنّ لهذا الطّف علمٌ لقبرِ أبيك سيّد الشهداء سلامُ الله عليه لا يُدرَسُ أثرُه على كرور اللّيالي والأيّام، وليجتهدنّ أئمةُ الكفرِ وأشياعُ الضّلالة في محوه وتطميسِه، فلا يزدادُ إلاّ علوّاً وأمرُه إلاّ ظهوراً}. فكيف تحقّق ذلك؟. أولاً؛ لا شكّ ان في الامر غيبٌ، فلقد أراد الله تعالى لقضية الحسين السبط سيد الشهداء (ع) ان تخلُد بهذا الشّكل، ولولا هذه الإرادة لطُمست الذّكرى منذ زمنٍ بعيدٍ، فانّ ما بذله الطّغاة على مرّ التاريخ لمحو اثر الامام وذكراه لو انّهم بذلوا واحداً من مليون على ايِّ امرٍ آخر لانمحى اثرُه في الحال بكلّ تأكيد، فكم من حدثٍ وثورةٍ وتضحيةٍ ومصيبةٍ ومأساةٍ مرّت في تاريخ البشريّة، لم يبقَ منها شيء يُذكر، واذا بقي فللذّكرى العابِرة فقط، اما عاشوراء فهي لا تُنسى لتُذكر ولا يغفل عنها الانسان ليستفيق عليها عندما تمرّ عليه، انها حاضرةٌ في الوجدان وفي المشاعر وفي القلوب وفي الأرواح وفي كل شيء، ليس عند شيعته ومحبّيه فقط، او عند المسلمين فحسب، وإنما عند كلّ الناس بلا استثناء، ولذلك لم نجدْ قضيّة في تاريخ البشرية كتبَ عنها الأدباء من الرواة والشعراء وغيرهم، وكذلك الكُتّاب والباحثين والمؤلفين واصحاب الاقلام الحرّة والشريفة من كل الملل والنّحل كما كتبوا عن الحسين (ع) وعاشوراء وكربلاء، وبصور وتصويرٍ وخيالات ومشاهد لا تجدْها في أيّة قضيّة أُخرى.انّ وراءها غيبٌ يحفظها من النسيان، اذن، واذا أراد الله شيئاً فلا رادَّ لإرادته، كما اخبرنا عز وجل في محكم كتابه الكريم {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} وقولُه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}. ثانياً؛ ولقد هيّأَ الله تعالى اسباباً لإنجاز هذا الغيب، ولعلّ اوّل هذه الأسباب هو العقيلة زينب بنت علي عليهما السلام التي وقفت في مجلس الطاغية يزيد تتحدى كل جبروته المصطنع وانتصاراته الكارتونية وزهوِه الكاذب، لتدلي بخطبتها التاريخية المشهورة التي لم يُكذّب منها التاريخ حتى حرفاً واحداً، على الرّغم من انها مليئة بالتّحديات التي عدّها الحضور وقتها ضربٌ من الخيال الذي لا يمكن بل من المستحيل تحقيقه، اذا بالأيام والسنين والعقود والقرون تمرّ ليُثبت الواقع صحّة كلّ حرفٍ قالته العقيلة بلا زيادة ولا نقصان، فماذا يعني هذا؟ الا يعني انها كانت صادقة مع نفسها ومع الله وواثقة من نفسها ومن الله وعلى يقين بقضيتها المقدّسة فكان ان تكلّم الصدق كلّهُ على لسانها؟. انّه صِدْقُ النّيّة الذي يحقق المعاجز ويفعل المستحيل، فما احوجنا اليه اليوم ونحن نمرّ بكل هذه التحدّيات العظيمة؟ سواء على المستوى الشخصي او على المستوى الاجتماعي او على مستوى الدولة والشعب؟ انها تحدّيات كبيرة لن ننجح في تجاوزها الا بالصّدق، صدق النية مع الله ومع النفس، والثقة بالله وبانفسِنا وبما نعتقد به من قيمٍ عليا. لقد أشار امير المؤمنين (ع) الى سر النصر الإلهي الذي نزل على المسلمين الاوائل بقوله {وَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله)، نَقْتُلُ آبَاءَنا وَأَبْنَاءَنَا وَإخْوَانَنا وَأَعْمَامَنَا، مَا يَزِيدُنَا ذلِكَ إلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً، وَمُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ، وَصَبْراً عَلى مَضَضِ الاْلَمِ، وَجِدّاً عَلى جِهَادِ الْعَدُوِّ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا وَالاْخَرُ مِنْ عَدُوِّنا يَتَصَاوَلاَنِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ، يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا، أيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ المَنُونِ، فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا، ومَرَّةً لِعَدُوِّنا مِنَّا، فَلَمَّا رَأَى اللهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصرَ، حَتَّى اسْتَقَرَّ الاِْسْلاَمُ مُلْقِياً جِرَانَهُ وَمُتَبَوِّئاً أَوْطَانَهُ، وَلَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ، مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ، وَلاَ اخْضَرَّ لِلاِيمَانِ عُودٌ، وَأَيْمُ اللهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً، وَلَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً}. لِنتساءل مع انفسِنا، وليسأل كلّ واحدٍ منّا نفسه عن مدى صدق نواياه؟ مدى صدقهِ مع الله؟ مدى صدقه مع نفسه؟ مدى صدقه مع الآخرين الذين يتعامل معهم؟ زوجه، زوجته، ابنه، ابنته، ابوه، أمه، اخوه، اخته، تلميذه، معلمه، مربّيه، مديره، وزيره، وكل من حوله يتعامل معهم ويتعاطى معهم الحياة والأمور. اذا تساءلنا، فليقرّر كلّ واحدٍ منّا ان يَزيدَ في نسبة صدقه ولو قليلا عن المعتاد، اذ كلما زدنا صدقاً ويقيناً كلّما اقتربنا من الله تعالى وبالتالي كلما اقترب إلينا النصر الإلهي الذي وعد ربّنا عزّ وجلّ عباده المؤمنين.انّ الملايين الزّاحِفة اليوم الى كربلاء، حيثُ مثوى الشهيد بن الشهيد، في مسيرة الاربعين، تحيي في كلّ خطوة ذكرى التضحية العظيمة التي اقدم عليها الامام الحسين بن علي السبط عليه السلام وأهل بيته واصحابه الميامين. وانّ قيمة التضحية تأتي: أولاً؛ عندما يَقدِمُ المرءُ على التضحية في زمن الخضوع والخنوع، فليس من الرّجولة بمكان او من الشجاعة بمكان ان تضحّي بشيء ما عندما ترى الكلّ يضحّي، فقد لا تكون تضحيتك هذه عن قناعة وإنما قد تُجبرُ عليها خجلاً او من اجل ان لا تشذّ عن الآخرين. اما المبادرة للتضحية في وقت لم يبادر اليها احدٌ لأي سبب من الأسباب، فتلك هي قيمة التضحية. ولقد ضحّى الحسين (ع) عندما استكان الآخرون وخضعوا للحاكم الاموي الظالم إما خوفاً او طمعاً او هرباً من المسؤولية او لأي سبب كان. ثانياً؛ عندما يختار المرء وقت التضحية ومكانها بنفسه فلا تُفرضُ عليه فرضاً او يُجبر عليها. قيمة التضحية عندما تختار وقتها ونوعيتها بنفسك، فلا تضطرّ لها او تُجبر عليها، فستكون (مُجبرٌ اخاكَ لا بطلُ). ولقد اختار الامام الحسين السبط (ع) التضحية بملء ارادته فلم يفرض عليه النظام الاموي شيئاً منها، وهكذا بقية شهداء كربلاء، فلقد كانت الظروف ملائمة لهم للهرب من التضحية والنجاة بأنفسهم، خاصة وان الامام أجاز لهم اكثر من مرة ان ينسحبوا من المعركة، فالقوم كانوا يطلبونه فلو طلبوه لاكتفَوا به دونهم، على حدِّ قول الامام عليه السلام، الا انّهم جميعاً اختاروا الشهادة بملء ارادتهم، فيما هرب منها او رفضها اخرون على الرغم من ان الامام دعاهم اليها. ثالثاً؛ عندما يضحّي المرء من اجل المُثل العليا والقيم الرسالية، اذ كلما كان الهدف أسمى كلما زادت قيمة التضحية، والعكس هو الصحيح، ولذلك ترى الانسانية تميل بفطرتها لتخليد التضحية اذا كانت لهدف انساني نبيل، وهذا ما لمِسَتْهُ في تضحية سيد الشهداء عليه السلام، فلقد ضحى الامام من اجل قيم نبيلة ومثل عليا هي ليست دينية او قومية او ما أشبه، أبداً، وإنما هي قيم إنسانية يعشقها ويتغنّى بها ويتمناها ويحرص عليها كل انسان بغضّ النظر عن دينه او اثنيّته او لونه او جنسه او حتى خلفيته الفكرية والعقدية والسياسية وما الى ذلك، انها قيم الكرامة والحرية والمساواة والعدل، فقال عليه السلام {ألا وإنّ الدّعي بن الدّعي قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذّلة يأبى الله لنا ذلك، ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهُرت، وأنوفٌ حميّة، ونفوسٌ أبيّة من أن نؤُثر طاعة اللّئام، على مصارعِ الكرام}. رابعاً؛ وتعظُم قيمة التضحية عندما يجود بها المرء عن قلّة ما في اليد، فان تعطي الفقير درهما وانت ثريٌ متمكنٌ فليس في الامر تضحية أبداً، اما ان تعطيه فلساً وانت لا تملك الا قوتَ يومِك، فتلك هي التضحية، وهذا ما فعله الامام الحسين (ع) فلقد بادر عليه السلام للتضحية وهم قليلون، فكانت تضحيته عظيمة وقيمتها كبيرة، فقال عليه السلام يحدثنا عن ذلك {الا وانّي زاحفٌ بهذه الأسرة على قلّة العدد وخذلان النّاصر}. خامساً؛ واخيراً، عندما تكون التضحية بأغلى ما عندك، فليس من التضحية في شيء ان توفّر الحياة لنفسك وتقدّم غيرك للموت، انما التضحية كل التضحية اذا تقدّمت الصفوف للتضحية ودعوت الآخرين لها، وهذا ما فعلهُ الامام الحسين (ع) فهو لم يجلس في خيمة القيادة يدعو الناس للتضحية، كما انه لم يُمسك أولاده ليحثّ الآخرين لتقديم اولادهم، ابداً انما قال لهم {نفسي مَعَ انفسِكم وأهلي مَعَ اهليكُم}. وما اروع ان نتعلّم التضحية من كربلاء، فـ: 1-نبادر للتضحية عندما نؤمن بقضية. 2- لا نضحّي الا من اجل قضية مقدّسة وهدفٌ سام، شخصيّ كان ام عام. 3- لا نخجل من التضحية بالقليل، فان عدم التضحية اقل منه. 4- لا شيء نحصل عليه بلا تضحية، سواء على مستوى الفرد، او على مستوى الجماعة، فالتعليم بحاجة الى تضحية، كما ان الحرية تحتاج تضحية، وكذا الأمن والاستقرار الذي ننشدهُ اليوم للعراق في ظل الهجمة الإرهابية التي يتعرض لها من قبل التكفيريين القتلة، وان التضحيات الجسيمة التي يقدّمها أبناء القوات المسلحة وأبناء الحشد الشعبي، ما هي الا مصداق من مصاديق التضحية الحسينيّة العاشورائيّة الكربلائيّة التي سيستقر بسببها العراق باذن الله ويتعافى من العنف والارهاب. 5- وهذا هو الفرق بين تضحياتنا وتضحياتهم، فنحنُ نضحّي من اجل الحرية وهم يضحون من اجل العبوديّة، نضحي من اجل العزة والكرامة، وهم يضحون من اجل الذل والخنوع والخضوع، نضحي من اجل الحياة ويضحون من اجل الموت، نضحي من اجل الحق والعدل والنور، وهم يضحون من اجل الباطل والجور والظلام، نحن نضحي من اجل الحسين (ع) وهم يضحون من اجل يزيد، وكفى بذلك لنا فخراً ولهم ذلاً، لنا نجاحاً ولهم فشلاً، لنا رفعةَ رأسٍ، امّا لهم فرؤوسهم منكوسة.
|