ديفيد تولبيرت
انجلت الحقيقة أخيراً بعد نشر التقرير الذي أعدّته لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي حول برنامج الاعتقال والاستجواب المُعتمد في وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي). والانتهاكات التي يسردها التقرير سرداً مُفصّلاً ومُبسّطاً تثير الاشمئزاز، إذ يوثّق حقبةً من الفوضى القانونيّة عرفتها السي آي أي، ويُظهر ضلوع مسؤولين رفيعي المستوى من الحكومة الأميركية في ارتكاب جرائم مُروّعة، بينها أساليب التعذيب المنهجي التي تُعدّ انتهاكاً لكلّ من اتفاقيّة مُناهضة التعذيب والقانون الأميركي على حدّ سواء. ويأتي تقرير مجلس الشيوخ ليؤكّد النتائج التي كشف عنها كلّ من المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة في جُملةٍ من التقارير العائدة إلى 2008، إذ أفادت النتائج هذه بأنّ ممارسة التعذيب المنهجية بحق المُعتقلين في السجون السريّة المُقامة خارج الأراضي الأميركيّة تمّت بإشراف المسؤولين الأرفع شأناً في الحكومة الأميركيّة. إلى ذلك، أشارت رئيسة لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، ديان فينشتاين، في مُقدّمة التقرير، إلى أنّ هذه المُمارسات شكّلت «انتهاكاً للقانون الأميركي ولالتزامات المُعاهدة». ولطالما أُحطنا علماً، منذ عقدٍ ونيّف، بتفاصيلَ عن مُمارسات غير مشروعة تعتمدها الولايات المتحدّة في الاعتقال والاستجواب، إلاّ أنّ «التقرير في شأن التعذيب» يكشفُ قناع الشّك عن مُحيّا اليقين في مسألة تورّط الحكومة الأميركية في انتهاج التعذيب على نحوٍ وحشيّ وواسع النطاق بحق لائحةٍ طويلةٍ من الأسماء، من دون أدنى مراعاةٍ للأصول القانونيّة أو حتّى مُحاكاةٍ للعدالة. يشير التقرير إلى ممارسات إجراميّة غير أخلاقيّة ويُفشي أكذوبةً هشّةً مفادها أنّ التعذيب أحبطَ، بطريقةٍ أو بأخرى، مؤامراتٍ إرهابيّة. وهو يستند إلى ما يزيد على خمسة ملايين دليلٍ صادرٍ عن وكالة الـ «سي آي أي» نفسها، ليكشفَ بشكلٍ قاطع زيفَ الادعاء هذا. إلى ذلك، يُقرّ التقرير إقراراً صريحاً لا لُبسَ فيه بأنّ برنامج التعذيب الخاص بال«سي آي أي» انتُهِجَ مُطوّلاً نتيجةَ تضليل عامّة الناس ومجلس النوّاب وحتّى البيت الأبيض. عيّنة واحدة من الانتهاكات تكفي ليدبَّ الرعبَ في النفوس. فالمحتجزون حُرموا النوم فتراتٍ طويلة امتدت أسبوعاً كاملاً، واحُتجزوا في زنزاناتٍ ضيّقة وتعرّضوا للإساءة الجسديّة كما استُخدمت الحشرات في عملية التعذيب وأوهِموا بالدفن أحياءً وأُجبروا على اتخاذ «وضعياتٍ مُجهدة». إلى ذلك، وبموافقة طاقم الـ«سي آي أي» الطبّي، تعرّض بعض السجناء للتغذية والإماهة الشرجيّة على نحوٍ قسريّ ودونما داعٍ طبيّ، الأمر الذي قد يعدّ اغتصاباً. وقيــلَ لبعـض المحتجزين إنّهم سيُقتلون في السجن، وتعرّضَ عددٌ منهم على نحوٍ متكرر للإيهام بالغرق. وقد خضعَ خالد شيخ محمّد وحده للإيهام بالغرق 183 مرة. ونعلمُ حاليّاً أنّ الـ«سي آي أي» احتجزت على الأقل 119 رجلاً، بينهم 26 رجلاً اعتُقِلوا عن طريق الخطأ على حدّ زعم الـ«سي آي أي». أمّا وقد اتخذ مجلس الشيوخ على عاتقه جلاء الحقيقة في مسألة المُمارسات العنيفة هذه، فحريّ بالولايات المتحدة أن تُحاسبَ المُرتكبين وتُمعن النظر في التزاماتها تجاه ضحايا سياساتها الخاصة بالاعتقال. وكما يُوضح تقرير مجلس الشيوخ، فأساليبَ التعذيب التي مورست في سجن أبو غريب وبانت على الملأ في 2003 موثّقةً بصورٍ فوتوغرافيّة مروّعة لم تكن نتيجةَ أعمالٍ اقترفها بعض العناصر الأميركيّة المُخادعة أو بعض المُفسدين، بل شكّلت جزءاً من مُمارسة منهجيّة للتعذيب حظيت بموافقة المسؤولين الأرفع شأناً في الحكومة. وبحسب التقرير، اختلقَ محامو «سي آي أي» منذ 2001 حُججاً قانونيّة «لتجنّب مُحاكمة المسؤولين الأميركيين الذين اعتمدوا التعذيب للاستحصال على معلومات». غير أنّ أحداً من المسؤولين لم يمثل بعد أمام المحكمة بتهمة إجازة التعذيب. وبدل ذلك، ينعمُ واضعو هذا البرنامج ومُجيزوه بعفوٍ خفيّ وغالباً ما يُنصّبون في مراكزَ مرموقة. كثيرةٌ هي الدول، لا سيما دول أميركا اللاتينيّة، التي واجهت تاريخَها في استعمال أساليب التعذيب وغيره من الجرائم الفادحة في خضم تعزيز التزامها بالقيم الديموقراطيّة وحقوق الإنسان، لا التضحية به. وواجهت الدول الآنفة الذكر حُججاً مناهضة للمحاسبة مُماثلة لتلك التي تدلي الولايات المتحدة بها اليوم، إذ تجد هذه الأخيرة أن الحقائق لم تأتِ بأيّ جديدٍ يُذكر وأنّ الأعمالَ كانت مُبرّرة، كما تعتبر أنّ النظرَ في الانتهاكات من شأنّه أن يُشرذمَ الساحة السياسيّة، وأنّه من الأجدى صبّ التركيز على المضي قدماً. ويُعدّ تقرير مجلس الشيوخ خطوةً أولى نحو الكشف عن الانتهاكات الجسيمة، وإن فاتَ أوان وضع التقرير الكامل في متناول العامة من الناس. فالعدالة بمفهومها الأساسيّ، تدعو إلى مثول الجُناة الأساسيّين أمام المحكمة والاعتراف بالانتهاكات وتعويض الحكومة على الضحايا. وقد حذت مجتمعاتٌ حول العالم هذا الحذو لا لأنّها تضطلع بالتزامٍ قانونيّ للقيام بذلك وحسب، بل لأنّها توّد إرسال إشارةٍ تبيّن استعدادها للامتثال لسيادة القانون أيضاً. «فالظلم، أينما وقعَ يُهدّد العدالة في كلّ مكان»، وفق ما صرّح الدكتور مارتن لوثر كينغ. فكيف يُمكن للولايات المتحدة التي تتباهى بتقاليدها الحافلة باحترام سيادة القانون وحقوق الإنسانيّة وأن تغضّ الطرف عن وصمة العار التي لطّخت سجلّها من دون أن يتردّد صدى نفاقها؟ وكيف تجرؤ على الإشارة إلى الانتهاكات المُقترفة في الدول الأخرى، والانتهاكات التي ارتكبتها أفظع وأبشع؟ وكيف يُمكنها إعادة إحياء صدقيتها الأخلاقية؟ واضحةٌ هي نقطة البداية إذ تتجلّى في الاعتراف بالحقيقة ومُحاسبة المرتكبين الرئيسيين والتعويض على الضحايا، أمّا ما دون ذلك، فليس سوى محاولة بائسة لتحريف الحقائق. * رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقالية.
|