المستقبل العراقي /متابعة تحتفظ السيدة أم سالم “65” سنة ،بالعديد من “الحاجيات”، كما أسمتها، في “صندوق ذكرياتها”؛ إذ يضم ثوبا ووسادة وشالات مطرزة إلى جانب مناديل القماش والمشط الخاص بوالدتها وبعض الأواني النحاسية. أم سالم رفضت “التفريط بتلك الأدوات”، وفق قولها؛ لأنها تسر العين وتدخل الفرح إلى قلبها عندما تنظر إليها. يأخذ الحنين أم سالم للاطلاع على محتويات الصندوق بين الحين والآخر، ولا تتردد بجمع أبنائها وأحفادها حول هذا الصندوق للبدء بسرد قصص ومواقف حول كل قطعة، لتعلو جراءها أصوات القهقهات والضحك، وتتناثر الدموع تارة أخرى. وتوصي الجدة أبناءها وأحفادها بضرورة المحافظة على هذا الصندوق بعد وفاتها، وتقول “أحث أبنائي دائما على ضرورة وجود مثل هذا الصندوق في منزل كل منهم، فلدينا أشياء عديدة تتحول لذكريات في المستقبل”. جميلة هي الذكريات، لدى كثيرين، مهما كانت حزينة أو مفرحة، يحتفظون بأدوات وصور وغيرها مما يجعلهم يعودون الماضي. العديد من الأشخاص يلجأون لتوثيق هذه الذكريات واستدامتها من خلال جمعها في “صندوق الذكريات” منها قصاصات ورق، هدية، أوراق شجر، تراب، ثوب، مسبحة، ربما مشبك شعر، مبخرة صغيرة، وغيرها الكثير من المقتنيات التي تعود لسنين مضت بأحداثها وقصصها المختلفة، يحتفظون بها للرجوع لها بين الحين والآخر والتأمل بذكرياتها التي تكتمل بالحديث عنها أمام الآخرين. وفي هذا السياق، يشير اختصاصي علم النفس د. عامر الشيخ، إلى أن الإنسان يمر بمجموعة خبرات سارة وسيئة في حياته، ويرغب بنقل الخبرات السارة للأجيال اللاحقة، فكبير السن يرى تجدد حياته بأبنائه، فالبحث عن الاستمرارية والبقاء وحب التمسك بالحياة لآخر اللحظات. ويضيف “من المتعارف عليه أن الآباء لا يحبون أن يروا أحدا أفضل من أبنائهم، حتى لو تفوق عليه ويضحي بكل شيء من أجله”، متابعا “ما دلالة الاحتفاظ بالمقتنيات القديمة، إلا محاولة لنقل وتجديد الفرح والنجاح، ولا يحتفظ إلا بما يعز عليه لأبنائه وأحفاده”. ويوضح الشيخ “لا يحتفظ الشخص بالأشياء التي تحمل خبرات فاشلة لديه، كونه لا يرغب بنقلها لأبنائه وتعيد في ذاكرته المواقف السيئة وتكثر التساؤلات حولها، فأي إنسان يحب أن يغرد في عالم النجاح خصوصا للمقربين منه، فحتى لو كان النجاح متوسطا يبالغ في استعراضه أمام الآخرين”. وعن الحاج أبو رمزي فلديه مقتنيات قديمة من مسبحة وساعة قديمة ورثها عن والده جمعها في صندوق حديدي كبير الحجم، وما يزال يستخدمها حتى هذا اليوم، وأوصى أبناءه بالحفاظ عليها بعد رحيله، وشدد على ضرورة توريثها للأحفاد. يقول أبو رمزي “يستغرب أبنائي لاهتمامي بهذه الأشياء، فهم لا يعرفون قيمتها وماذا تعني لي، فهي جزء من الماضي بحلوه ومره، حتى لو كانت قديمة التصميم، وأتمنى منهم ألا يحتفظوا بها فقط وإنما أن يستخدموها بعد موتي”. من جانبه، يرى استشاري علم الاجتماع الأسري مفيد سرحان، أن الأجداد والآباء لديهم حرص كبير على التواصل مع أبنائهم وأحفادهم بصورة عامة بكل الطرق المتاحة، ونقل تجاربهم إليهم، وكذلك رغبة في التوفير المادي عليهم، وأيضا اعتقادهم بأن ما كانوا عليه من عادات وتقاليد أفضل بكثير لأبنائهم وأحفادهم. في هذا الأمر الكثير من الإيجابيات، وفق سرحان، منها إدامة وربط الأجيال مع بعضها بعضا، بحسب سرحان، ونقل الخبرات والتجارب وأيضا الحفاظ على الموروث الاجتماعي والتراث، وتعريف الأجيال اللاحقة به، والأصل أن يتعامل الأبناء والأحفاد بإيجابية حتى لو شعروا أنها لا تناسبهم من حيث العمر الزمني، وما استجد في المجتمع من عادات. ويرى أنه من الجميل لكل أسرة ممتدة أن تحتفظ بشيء من تراثها سواء بالمقتنيات الشخصية أو التحف، وأن يطلع عليها الأحفاد، كما يدعو إلى التعامل مع هذه الأمور بإيجابية، فكما تدين تدان.وتصف نوال صبري صندوق ذكرياتها بقولها “بدأت بجمع أغراض الصندوق منذ ولادة طفلتي الأولى، منها الزينة والعلب والهدايا وبعض من غياراتها التي قمت بتطريز اسمها عليها، إلى جانب أول صابونة اغتسلت بها ابنتي”.بينما يحتوي صندوق ذكريات مها سلطان (28 عاما) على مجموعة من رسائل زوجها أيام الخطوبة، وعطر، وأول نظارة شمسية اشترتها من سوق شعبي، إلى جانب شموع بأشكال مختلفة جمعتها قبل الزواج وبعده”.وتشاركها الكلام الموظفة خلود العبيدي (33 عاما)، وتقول “صندوقي فيه دفتر رسم من أيام المراهقة وإكسسوارات الطفولة ولاصقات باربي وكروت معايدة من صديقاتي ودفتر قديم فيه بعض من الشخابيط، ورسائل الصديقات في المراحل الدراسية وصور في الجامعة”.من جانبه، يرى خبير التراث كمال لطيف ، أن احتفاظ الكبار بأغراضهم الشخصية، له إيجابيات أهمها المحافظة على التراث واستذكاره، فضلا عن إعادة التدوير للمقتنيات، منوها إلى أن كثيرين يغفلون هذا الأمر فيلقون بأغراضهم في “حاويات القمامة” مع أنه قد تحتاجها الأسرة فيما بعد، لاسيما أنها قد تصلح للصغار. كما يشيرلطيف إلى أن رغبة الكبار في أن يستعمل أحفادهم مقتنياتهم تنطلق من محبتهم لأبنائهم وأحفادهم من جهة ومن جهة أخرى رغبة في استرجاع الذكريات وملء وقت الفراغ. ويشيد لطيف بقيام الكبار بالاحتفاظ بأغراضهم لأن ذلك دليل على التوفير، وهذا بدوره يسهم في تكريس فكرة المحافظة على المقتنيات لاسيما الأصيلة التي تشجع القيم المجتمعية وتثبتها.
|