دونالد موريسون
بات أمراً عسيراً الدخول الى مكتبة أو فتح مجلة او تشغيل التلفاز من أن ترى وجه اريك زيمور المتجهم. أصبح هذا الاستفزازي العبقري المؤلف الأكثر اثارة للجدل بسبب كتابه الاكثر مبيعاً «الانتحار الفرنسي».أخفق الكتاب في أن يكون جدياً كما رغب مؤلفه. ليس تحليل زيمور الخاطئ فحسب، على رغم أن فرنسا تعاني اقتصاداً ممزقاً ولا تعرف كيف تتصرف مع المهاجرين إليها، وظهر الى العلن فشل طبقتها السياسية. بل إن زيمور مخطئ لأنه يفرط في تقويم خطر الوضع. فالانتحار الفرنسي ممكن بقدر امكان تناول (الرئيس الفرنسي) فرنسوا هولاند عشاءً على ضوء الشموع مع (صديقته السابقة) فاليري تريرفايلير في صالات قصر الاليزيه. لفهمه، ينبغي تحويل النظر الى بلد يحتضر فعلاً: الولايات المتحدة.فلنأخذ نتائج انتخابات نصف الولاية الأخيرة: قرر المواطنون الاميركيون بأصواتهم منح السيطرة في مجلس الشيوخ الى المعارضة الجمهورية وتعزيز إمساكها بمجلس النواب. الحزب الجمهوري هو ذاته من انزل الستارة على الإدارة عام 2013 اثناء «الإقفال» الذي استمر سبعة عشر يوماً، وهو من يهدد بتكرار الاقفال وبإعاقة كل مبادرة رئيسة للرئيس باراك أوباما. هذا الحزب الذي اجتاح ممثله الأخير في قمة الدولة، جورج دبليو بوش، بلداً بناء على أكاذيب وأباح اللجوء الى التعذيب، وخلّف قبل رحيله أخطر أزمة اقتصادية عرفها العالم منذ قرن. الكبائر الجمهورية هذه لم تحل دون تركيز الحملة الانتخابية الأخيرة (التجديد النصفي للكونغرس) على صورة أوباما الذي بلغ معدل الثقة به المستوى الأكثر انخفاضاً تاريخياً ليحصل على اربعين في المئة من الآراء الايجابية (رغم أن هناك مسؤولين فرنسيين يحلمون بالحصول على هذا المستوى من التأييد الشعبي). ما زال غامضاً السبب الدقيق لهذا الرفض الكبير لأوباما في صفوف مواطنيه. ففي نهاية المطاف، أَصلَحَ اوباما الجزء الأساس من الأضرار التي اصابت الاقتصاد والديبلوماسية الاميركية على يد سلفه، مُباشراً في الوقت ذاته اصلاحات كبرى في نظامي الصحة والهجرة. بيد أن «تقريع أوباما» يمثل مخرجاً للمزاج الوطني، وتظهر استطلاعات الرأي ان القسم الاكبر من الأميركيين يرى ان الولايات المتحدة تسير في «الاتجاه الخاطئ». اميركا تنهار، بالمعنى الحرفي للكلمة. ويحذر المهندسون في كل أرجاء البلاد من الحالة السيئة لأعداد كبيرة من الجسور والأنفاق التي لا يمكن ضمان سلامة المارين بها. وتعمل المطارات والطرق السريعة بأقصى طاقاتها، ولا توجد شبكة قطارات سريعة (شبكة السكك الحديد في حال مزرية) لتخفيف الأعباء. الانترنت هو الأبطأ في العالم المتطور، لكن هذا لا يمنع المشغّلين من فرض الرسوم الأعلى. وعلى رغم كل علامات التدهور هذه، فإن دعوات أوباما الى اعادة بناء البنى التحتية في البلاد تتلقاها آذان الكونغرس الصماء. يقتل الأميركيون انفسهم فردياً. وعلى رغم الإصلاح الأخير للنظام الصحي، ما زال الأطباء والأدوية والمستشفيات الأميركية الأغلى في العالم من دون ان تكون الأكثر فاعلية. ومؤشرات الصحة العامة ادنى من معدلات البلدان الغنية بما فيها العمر المتوقع ووفيات الاطفال. ويعاني ثلثا الأميركيين تقريباً من زيادة في الوزن ويعتبر نصف هؤلاء بدناء (نصف هذه النسبة في فرنسا). وبسبب ضآلة المعلومات عن منع الحمل، تحمل اكثر من 30 في المئة من المراهقات مرة على الأقل، ثمانون في المئة منهن من دون رغبة في الحمل. ويُقتل في أميركا 31 ألف شخص سنوياً بالأسلحة، أي اكثر بـ16 مرة من فرنسا.مقارنة بهذه اللوحة السوداء، لا تبدو فرنسا مقيمة عند الحوافز الانتحارية. ويعشق الأميركيون السخرية من الفرنسيين، ولكن من الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، تبدو فرنسا في حالة طيبة: قطارات عالية السرعة ونظام صحي من الأفضل في العالم، وغذاء سلـــيم وأسلــوب حياة مرغوب واعتناء بالثقافة والتربية لم تعرفه الولايات المتحدة ابداً.وفرنسا أمة صامدة نجت من كل انواع الاجتياحات والحروب الدينية الأكثر وحشية، وثورات دموية وجمهوريات غير مثالية وحروب كارثية مناهضة للاستعمار، وساعات العمل الأسبوعي فيها 35 ساعة. ويجب ألا ننسى الهجرة التي اتاحت لأشخاص مثل ماري كوري وبيكاسو وزين الدين زيدان ان يرفعوا عالياً الوان علم فرنسا. وأنا مقتنع بأن فرنسا ما زالت امة حيوية، قادرة دائماً على تقديم الأفضل، لكنني لا استطيع قول الشيء ذاته عن اميركا.
|