المستقبل العراقي/محمد الربيعي
يعاني العراق منذ العام 1978 اختلالا كبيرا في توازنه السكاني، لتتضاعف أعداد النساء مقابل أعداد الرجال، الذين كانوا وقودا لحروب استمرت لثلاثة عقود. ويصاحب الخلل في التركيبة السكانية، انهيار معادلة التوازن الاجتماعي، القائمة على تفاوت طبيعي بين أعداد الذكور والإناث. ووفق إحصائيات فان نسبة النساء العوانس في العراق تزيد على 30% وتنحصر بصورة رئيسية بين الفتيات اللواتي يشعرن انه يتوجب عليهن الانتظار طويلا لتحقيق أمنية الزواج وتكوين أسرة. وعلى رغم ان إحصائيات عراقية تفيد ان سنوات الحرب 1980 ـ 1988 خلفت ما يقرب من مليون أرملة، الا ان الباحث الاجتماعي كريم شنتاف يرى ان الاعداد الحالية تتجاوز هذا الرقم لاسيما بعد العام 2003 حيث استهلكت الحرب الأهلية التي استمرت ما يقارب الخمس سنوات الطاقات البشرية العراقية لاسيما الرجال. ويضيف “ ان هذا يفسر بالتأكيد السبب الرئيس لزيادة نسبة العنوسة في العراق التي كانت منخفضة جدا حتى نهاية السبعينيات. أما الآن وبعد ان القت الحرب أوزارها فان صعوبة الزواج لعوامل مادية واجتماعية يفاقم من اعداد النساء العازبات، بل والرجال العازبين أيضا. ويرى شنتاف في بحث له ان إحصائية أجراها العام 2009 بين حوالي خمسين امرأة عانس، أفادت ان المشكلة الاقتصادية تمثل السبب الأول في العزوف عن الزواج، تأتي بعدها العوامل الاجتماعية مثل العادات والتقاليد. وما بين عانس وأرملة يزداد العدد بصورة دراماتيكية مقارنة بالرجال. ويرجع احمد حسين وهو شاب تخرج من الجامعة المستنصرية العام 2006 عزوفه عن الزواج الى المغالاة في الطلبات من أثاث وحفل زفاف ومهر. ويتابع بألم”تخليت عن حلمي في الاقتران بزميلة لي حين أدركت أنني لا أستطيع توفير الشروط المطلوبة.” ويقول حسين ان فتاته تزوجت من رجل يكبرها سنا بكثير لأنه غني. حلم الهجرة يؤجل مشاريع الزواج وفي الأعوام بعد العام 2003 كان حلم الشباب العراقي الهجرة، ليندرج مشروع الزوج في اسفل القائمة من الاهتمامات والأمنيات. وحتى الشباب المتمكن ماديا – يتابع لفتة -، يفضل ان يستثمر ما بحوزته للهجرة من العراق، حيث أصبح السفر الى أوربا الشغل الشاغل الشاغل لكثيرين. وبينما يسمى العراقيون المرأة العانس ب”البائرة” وهو تعبير مشتق أصلا من الأرض “البائر” أي غير الصالحة للزراعة الا ان هذا المصطلح لا يطلق على الشاب الذي تأخر في الاقتران بشريكة العمر. ولا يشعر المجتمع العراقي بالعيب من تأخره في الزواج، لكن ينظر إلى عنوسة المرأة على أنها عيب كبير، وغالبا ما تختلق الشائعات حول أسباب عدم زواجها. ابتسام منهل عيسى، موظفة في مصرف الرافدين كانت صريحة في القول أنها تأخرت كثيرا في الزواج وهي في سن الخامسة والأربعين بسبب العرف العشائري حيث منعوها أولاد عمومتها من الزواج المبكر وفق قاعدة ما يسمى بالنهوة. وتتابع “كل من يتقدم لي يرفض ولم يجرأ أحد منهم على الزواج مني، حتى توفرت الظروف الملائمة بعد تعييني للاقتران من زميل لي في العمل”. وتعزي بهيجة عبد الواحد السلامي تأخرها في الزواج غالى استمرارها في دراستها لنيل شهادة الدكتوراه. لكنها تعترف ان نسبة العنوسة بين العراقيات كبيرة. وعلى رغم ان السلامي نالت الدكتوراه لكنها لم تفصح عن مشروع قريب للزواج وكان جوابها.. الله كريم.وتبلغ مشكلة العزوف عن الزواج في أقصى حالات تأزمها حين ترتبط العوامل الاجتماعية بالأسباب الصحية في مجتمع مازال بعيدا عن معالجة مشاكله بصورة علمية. العقد المستحكمة و فريال محمد كاظم، مثال على العقد المستحكمة في المجتمع، حيث يعود عدم زواجها الى “ الوراثة” الموجودة في العائلة فكل اخواتها المتزوجات أنجبن أطفالا معاقين “ منغول “. وهذا ادى الى عزوف الكثير من الرجال عن التقدم لها. وحول امكانية إجراء فحص طبي للتأكد من حقيقة الأمر قالت أنها أجرته مرة واحدة مع رجل تقدم للزواج منها واثبت التحليل عدم التطابق بين فصائل الدم. وبعد ذلك لم تسعى فريال لأي تحليل طبي من رجل آخر بسبب الخوف الذي دب في قلبها ليحولها إلى امرأة يائسة من إجراء أي فحص آخر خوفا من النتائج السلبية. الإعلام العراقي.. مقصر يقول الباحث الاجتماعي شنتاف ان الإعلام العراقي الذي في اغلبه واجهة لأجندة سياسية يفتقر الى البرامج الاجتماعية التي تعالج هذه الظواهر. ويضرب شنتاف مثلا ليقول : الانفتاح الإعلامي الكبير في العراق وتزايد الاهتمام بشبكات التواصل الاجتماعي وظهور مسلسلات تلفزيونية وأفلام، تجعل شباب العراق يعيش عالما رقميا متخيلا يبعده عن الواقع. ويتابع : انه الانفصام بعينه، فالشباب يعيش أحلام العيش في القصور والحب الرقمي والمرأة التي لا يجد لها مثيلا على ارض الواقع. وهو يرى ان بإمكان الشاب إرضاء الغريزة من دون زواج عبر العلاقات العاطفية الرقمية والأفلام الإباحية في الميديا. وتبلغ أسعار مساكن الإيجار أرقاما فلكية، بعدما عزف اغلب الشباب عن العادة الايجابية المتبعة منذ عشرات السنين في العراق وهي السكن مع الأهل. ولعل هذا احدى تأثيرات النت والمسلسلات المدبلجة التي تزرع في ذات الشاب سلوكيات ارستقراطية، فيتخيل الواقع مثل نسخة مطابقة لما يعيشه في المسلسلات والأفلام. وبحسب شنتاف فان توافر فرص العمل سيخلق استقرارا نفسيا يحفز الرجال والنساء على الزواج.ويحذر عراقيون من النخب المثقفة دار معهم حديث مشاكل الزواج، من الإخلال بتقاليد المجتمع وأخلاقه العامة، ويرون ان الأسرة هي المؤسسة العمود التي يرتكز عليها الاستقرار الاجتماعي. ويتفق الجميع على انه يتوجب ان البدء بمشاريع اجتماعية كبيرة تمكن الشباب من إيجاد فرص العمل التي هي الخطوة الأولى في طريق بناء الشاب للأسرة. تمويل مشاريع الزواج تقول الدكتورة كاترين ميخائيل الناشطة في مجال حقوق الانسان في بحث لها : كنت طالبة في جامعة الموصل في بداية السبعينات وكانت نسبة الاناث 33% في جامعتي و نسبة المحجبات 3% وكان ينظر الى هذه القضية كمسألة طبيعية جدا، فتنال المحجبة كل الاحترام وليس من يضغط عليها بنزع او ارتداء الحجاب. ولم تتفنن في حينها بلبس الحجاب كما تعمل اليوم الشابة العراقية , ليس موضوعي هو الحجاب لكن وجود الحجاب هو دليل التخوف من العنوسة لدى الشابة العراقية بالاضافة الى وجود عوامل اخرى ساذكرها لاحقا. وقد شجعني اليوم منظر وسلوك الشابة العراقية لأبحث عن هذا الموضوع. وترى ميخائيل الحل في ايجاد سوق خيري يقوم بايجاد مصادر لتمويل العوائل ذات الدخل المحدود وتقديم منح للشابات والشباب لتشجيعهم على الزواج. ومفاتحة المراجع الدينية لتمويل هذا الصندوق من دخل المراجع الدينية لان كل الديانات السماوية تبارك الزواج وتكوين العائلة والتثقيف بعدم المبالغة بمصاريف الزواج والمظاهر غير المجدية. البذخ اما فاهم حسين وهو مدرس ويمتلك دكانا لتجهيزات الأعراس، فيرى السبب المجتمعي عاملا اساسا في طغيان العنوسة، من ذلك تقاليد البذخ والتباهي في الإنفاق على حفلات الزواج وشروط السكن المستقل. ويضيف ان تعقيد الزواج، وعزوف البعض عن الزواج من الارملة يؤدي الى علاقة متسترة مما يؤدي الى وقوع المرآة العانس او الأرملة ضحية الإشاعات التي تلوكها الألسن. وما يجدر ذكره ان بعض الحكومات المحلية دأبت على تنظيم حفلات زواج جماعية. وهي على ندرتها ساهمت في بلورة فكرة تعاون جمعية. على ان البعض ينادي بضرورة تعدد الزوجات، لحل مشكلة العنوسة بين كلا الجنسين، لكن كثيرين يرون انها فكرة غير عصرية وتصنف كفكرة رجعية تصب في خانة العبودية.
|