المفكر العراقي د. علي المؤمن
في دراساتي عن تاريخ العراق السياسي المعاصر، وخاصة المتعلقة بأحداث العقود الثاني والثالث والرابع من القرن العشرين، بوصفها العقود التأسيسية لما يسمى بالعراق الحديث أو الدولة العراقية الحديثة، والتي تأسست بإرادة انجليزية على أنقاض ثلاث ولايات عثمانية: البصرة، بغداد والموصل؛ كنت أبحث باستمرار عن مدونات تاريخية ورؤى تحليلية بأقلام مؤرخين إنجليز وأوربيين شبه محايدين، أي يمتلكون نزعات أكاديمية منهجية، لأن أغلب المدونات التاريخية البريطانية المترجمة الى اللغة العربية عن تلك الفترة، تحمل بصمات الاحتلال البريطاني نفسه، سواء ما كتبته المستشارة البريطانية “بيل” أو مذكرات القادة البريطانيين والمندوبين الساميين في العراق، وهي كتابات لا يمكن اعتماد سردياتها التاريخية، كونها تسوغ للاحتلال وتزدري العراقيين عامة وخصوم البريطانيين خاصة. ولست هنا بصدد تقويم المدونات المذكورة؛ بقدر ما أُريد بها مدخلاً للتعرف على الفرق المنهجي بينها وبين الكتب الستة التي تؤلف موسوعة “ثورة 1920 الكبرى في بلاد الرافدين بأقلام أجنبية”، التي أعدها وترجمها الدكتور قاسم محمد حسن الأسدي، رئيس جمعية المترجمين العراقيين، والتي وجدت فيها ضالتي في المساحة التي بقيت فارغة طيلة الفترة التي كنت أعمل فيها على مشروع إعادة كتابة تاريخ العراق السياسي المعاصر. فكتب الموسوعة الجديدة تحظى بقدر مهم من الموضوعية النسبية، قياساً بما اطلعنا عليه حتى الآن من كتب مترجمة حول الفترة المذكورة. وعلى خلاف المدونات الاستعمارية الاحتلالية التي أصدرها الانجليز حول ثورة العشرين وما أعقبها من أحداث؛ فإن كثيراً مما جاء في كتب هذه الموسوعة عن جرائم الاحتلال الإنجليزي، ليس في الجانب العسكري وحسب، بل في الجانب السياسي أيضاً، وخاصة على مستوى كشف مطامع الانجليز الحقيقية، واستغفالهم الشعب العراقي الثائر ونخبه المقاومة، والمجيء برجل أجنبي عميل لها من طائفة غير طائفة أغلبية السكان، وفرضه ملكاً على العراق. وبذلك تكون بريطانيا قد انتقمت من جهاد الشيعة وعلمائهم ومن حركة الحبوبي وثورة النجف وثورة العشرين، وكافأت عملاءها الطائفيين العثمانيين الذين كانوا جنرالات ومسؤولين في الجيش العثماني، ثم انقلبوا على الدولة التركية وانخرطوا في جيش عملاء الانجليز، ووقفوا مع الاحتلال ضد الثوار، فنصّبتهم بريطانيا رؤوساء وزراء ووزراء ومسؤولين فيما سمي بالدولة العراقية الحديثة، الى جانب عميلها الأجنبي الذي أفاضت عليه بلقب ملك. ومن المميزات الموضوعية والفنية للموسوعة، لغة المترجم؛ فقد جاءت اللغة دقيقة سهلة ممتنعة سليمة، تشجع القارئ على مطالعتها، إضافة الى عناية المترجم بالإحالات والهوامش والايضاحات، وهو بحد ذاته جهد علمي تحقيقي. وكذلك حجم الكتب، الذي يتراوح بين (150) و(200) صفحة؛ الأمر الذي يسهِّل على الباحثين وطلبة الدراسات العليا وعموم أصحاب الاختصاص والاهتمام، قراءتها والاستفادة من نصوصها. هذا فضلاً عن الميزات الطباعية النوعية. وقد ذكر المترجم في مقدمته أن هذا العمل العلمي النوعي استغرق العمل فيه ثلاث سنوات، الأمر الذي يدل على قرار في الدقة والتأني، ليخرج العمل متكاملاً في أغلب أوجهه. وأرى أن الموسوعة تقدم مادة تاريخية جديدة مهمة، وتكشف عن حقائق غائبة حول العراق في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين، لا يمكن للباحث والمتخصص وطالب الدراسات العليا، وعموم المهتمين والقراء الاستغناء عنها، بل لعلها من المصادر المباشرة النوعية لكل من يريد الكتابة عن تلك الفترة أو الإطلاع لى حقائقها. |